تفسير سفر التكوين الاصحاح الاول
📖 الأصحاح الأول من سفر التكوين: قصة الخلق العظيمة
يتناول الأصحاح الأول من سفر التكوين قصة خلق الله للكون في ستة أيام، ويعد أساساً للعقيدة المسيحية في فهم الكون والإنسان وعلاقتهما بالخالق.
🌟 1. في البدء خلق الله (الآيات 1-2)
"فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.": هذه الجملة هي إعلان عقائدي بـ "الله الخالق".
"الله" (ألوهيم): الصيغة المستخدمة في العبرية هي صيغة جمع، وهذا يشير إلى الثالوث الأقدس (الآب، والابن، والروح القدس)، فالخلق هو عمل مشترك للأقانيم الثلاثة.
الخلق من العدم (Ex Nihilo): يؤكد أن الله خلق الكون والمادة الأولية من العدم (وليس من مادة أزلية)، وهو ما يميز عمل الله عن عمل الإنسان.
"وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ.":
الروح القدس: ظهور الروح القدس (روح الله) وهو "يرف" على المياه، يشير إلى دور الأقنوم الثالث في إعطاء الحياة وتهيئة المادة الأولية لتصبح خليقة منظمة، كما يرف الطائر على عشه ليمنحه الدفء والحياة.
☀️ 2. عمل الأيام الستة وتطور الخلق
يشرح الأصحاح الأول كيف حول الله هذه المادة الأولية (الخربة والخالية) إلى كون مُنظَّم ومُعد للحياة.
اليوم الأول خلق النور وفصله عن الظلمة (تسمية النور نهاراً والظلمة ليلاً). يشير النور إلى المسيح (نور العالم)، ويشير الفصل بينهما إلى التمييز بين الحق والباطل، والحياة مع الله والبعد عنه.
اليوم الثاني خلق الجلد (الفضاء) ليفصل بين المياه التي تحت الجلد (البحار والأنهار) والمياه التي فوق الجلد (السحاب). يمثل تنظيم الكون وإعداده لاستقبال الكائنات الحية.
اليوم الثالث تجميع المياه لظهور اليابسة (الأرض) وخلق النباتات (العشب، البقول، الشجر المثمر). يظهر النمو والحياة على الأرض، ومبدأ التكاثر "كجنسه"، الذي يؤكد على ثبات الأجناس وعدم تحولها إلى جنس آخر (من منظور الخلق المباشر).
اليوم الرابع خلق الأنوار العظيمة (الشمس والقمر والنجوم) لتفصل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأزمنة وأيام وسنين. هذه الأنوار مخلوقة لخدمة الأرض وهي ليست آلهة، وهو رد على العبادات الوثنية للشمس والقمر.
اليوم الخامس خلق الكائنات البحرية والطيور، وباركها قائلاً: "أَثْمِرِي وَاكْثُرِي وَامْلَئِي". يظهر سلطان الله على خلق الحياة في البحار والسماء، ومباركة الكائنات للتكاثر.
اليوم السادس خلق حيوانات الأرض ثم خلق الإنسان. يمثل تتويج عملية الخلق بخلق الإنسان، سيد الخليقة الأرضية.
👑 3. خلق الإنسان (الآيات 26-31)
يُعد خلق الإنسان قمة الخلق ومحوره، وله وضع خاص:
"نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا":
صورة الله: لا تعني الشكل الجسدي، بل هي صفات روحية وعقلية مثل: العقل، الإرادة الحرة، الخلود، القدرة على الحب، والسلطان. هي إمكانية الشركة مع الله.
شبه الله: هي الغاية التي يُدعى إليها الإنسان، وهي النمو في الكمال والقداسة لتصبح الصورة الإلهية متجلية فيه.
السلطان: أُعطي الإنسان السلطان لـ "يَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ...". الإنسان هو وكيل الله على الأرض، وهذا السلطان هو مسؤولية واهتمام وليس استغلالاً.
"ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ": تأسيس لسر الزواج كوحدة مقدسة، حيث يكمل كل منهما الآخر ليعكسا معاً صورة الله بشكل أكمل.
"رَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا": هذه العبارة الختامية تؤكد على كمال الخليقة ونظامها قبل السقوط، وأن كل ما خلقه الله كان صالحاً وطاهراً.
✨ الدلالات الرئيسية
الثالوث القدوس: يتجلى عمل الثالوث في الخلق: الآب (الخالق الذي يريد)، الابن (الكلمة الذي به كان كل شيء، "وقال الله ليكن...")، والروح القدس (الذي يرف ليهب الحياة والكمال).
الخليقة صالحة: يؤكد على أن المادة والجسد ليسا شراً بطبيعتهما، بل كل ما خلقه الله "حَسَنٌ جِدًّا".
هدف الإنسان: الغاية من وجود الإنسان هي تحقيق شبه الله، والنمو في شركة وقداسة، وتمثيل الله كسيد على الخليقة.
النظام والتدبير الإلهي: الخلق تم بـ نظام وتدريج، مما يعكس حكمة الله وتدبيره الدقيق.
💡 الإعجاز العلمي في سفر التكوين الاصحاح الاول
توافق بين ترتيب الخلق في الأصحاح الأول وبعض الاكتشافات العلمية، ومن أمثلة ذلك:
1. خلق النور قبل الشمس (اليوم الأول قبل اليوم الرابع)
النص: "وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ»، فَكَانَ نُورٌ." (تك 1: 3)، بينما خُلقت الأنوار العظيمة (الشمس والقمر) في اليوم الرابع.
التوافق العلمي: هذا يتفق مع نظرية الانفجار العظيم (Big Bang)، حيث بدأت المرحلة الأولى للكون بالطاقة والضوء المنتشرين قبل أن تتشكل النجوم والأجرام السماوية (الشمس والقمر). النور الأولي كان طاقة عامة، بينما الشمس هي مصدر محدد لهذا النور.
2. خلق النباتات قبل الشمس (اليوم الثالث قبل اليوم الرابع)
النص: خُلق النبات في اليوم الثالث، بينما الشمس في اليوم الرابع.
التفسير: هذا تحدٍّ علمي واضح، حيث تحتاج النباتات (عملية البناء الضوئي) إلى الشمس:
أيام الخلق كفترات: الأيام ليست بالضرورة أياماً حرفية (24 ساعة)، بل فترات زمنية إلهية (أو "عصور").
النور الأولي: النور المخلوق في اليوم الأول كان كافياً لإنبات البذرة والحياة الأولية للنبات، حتى تشكَّل مصدره الثابت (الشمس) في اليوم الرابع.
هدف روحي: التركيز ليس على التسلسل البيولوجي الدقيق، بل على إظهار أن الله هو مصدر الحياة ومؤسس النظام، وأن الخليقة كلها مُعدة لخدمة الإنسان.
3. ترتيب ظهور الكائنات الحية
يرى البعض أن ترتيب الخلق يتوافق تقريباً مع ظهور الكائنات في السجل الأحفوري:
اليوم الخامس الكائنات البحرية والطيور. الحياة بدأت في المياه (الأسماك والكائنات البحرية).
اليوم السادس حيوانات البرية ثم الإنسان. ظهور الثدييات وآخرها الإنسان في التسلسل التطوري (من منظور تسلسل زمني طويل).
⚠️ التحفظات اللاهوتية
تُحذِّر الكنيسة الأرثوذكسية من التعسف في تطبيق المصطلحات العلمية على النص المقدس، وتشدد على النقاط التالية:
هدف السفر روحي: سفر التكوين كتب بأسلوب بسيط وتصويري ليفهمه الإنسان البدائي (موسى والشعب القديم)، ويهدف إلى إعلان حقيقة الله الخالق الواحد وكرامة الإنسان، وليس تقديم معادلة فيزيائية أو بيولوجية.
أيام الخلق (الفترة الزمنية): يرى العديد من الآباء أن كلمة "يوم" (بالعبرية: يوم - yom) في هذا السياق قد تعني فترة زمنية غير محددة (عصر)، خاصة وأن الشمس لم تكن قد خُلقت لتحدد اليوم بأربع وعشرين ساعة إلا في اليوم الرابع. هذا يسمح بالتوافق مع التقديرات العلمية لأعمار الكون والأرض (مليارات السنين).
رفض نظرية التطور المُخالفة للكرامة الإنسانية: بينما لا تتعارض فكرة التكيف والتطور الجزئي (الـ Micro-Evolution) مع العقيدة، فإن الكنيسة ترفض النظرية التي تجعل الإنسان مجرد تطور للمادة أو القردة، لأنها تُنكر خلق الإنسان "على صورة الله ومثاله"، وهي النقطة الجوهرية والفريدة في الخلق.
الأدلة العلمية تُستخدم أحياناً لإظهار عظمة النظام الإلهي في الخلق، لكن الإعجاز الحقيقي لسفر التكوين يكمن في إعلانه عن الله الواحد والثالوث الخالق من العدم، وكرامة الإنسان، وهي حقائق لا يمكن للعلم وحده أن يدركها.

تعليقات
إرسال تعليق