تفسير الاصحاح السادس من سفر التكوين
🌊 الأصحاح السادس من سفر التكوين: فساد البشرية والعهد مع نوح
هذا الأصحاح يمثل الذروة السلبية لفساد الإنسان بعد السقوط، ويُمهد للحدث العظيم (الطوفان)، مُظهراً عدل الله ورحمته معاً.
1. سبب الدينونة: تزاوج بني الله وبنات الناس (الآيات 1-4)
"وَرَأَى أَبْنَاءُ اللهِ بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ، فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا.":
"أبناء الله": التفسير الروحي التقليدي يرى أنهم نسل شيث الصالحين، الذين كانوا محافظين على الإيمان والعبادة (كما ذُكر في نهاية الأصحاح الرابع).
"بنات الناس": هن نسل قايين الشرير الفاسد الذي انغمس في الملذات الأرضية والابتعاد عن الله (كما ذُكر في الأصحاح الرابع).
السقوط الكبير: كان هذا التزاوج هو الخطر الأكبر الذي قضى على التمييز الروحي. فبدلاً من أن يسحب نسل شيث نسل قايين إلى الله، انحدر نسل شيث إلى مستوى نسل قايين (الزواج غير المتكافئ روحياً). هذا الاندماج أدى إلى فساد الإيمان وانتشار الشر في كل البشرية.
الجبابرة: "كَانَ فِي الأَرْضِ جَبَابِرَةٌ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ... هؤُلاَءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ فِي الدَّهْرِ، ذَوُو الاسْمِ." الجبابرة هم الأقوياء والمشهورون بالعنف والسيطرة، نتيجة هذا الزواج غير الروحي، الذي عزز القوة الجسدية على حساب الروح.
2. قرار الله بالدينونة (الآيات 5-7)
الفساد الكلي: "وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ."
هذا يوضح أن الخطيئة لم تعد مجرد أفعال، بل تغلغلت في عمق الطبيعة البشرية، في "تصوّر الأفكار"، مما جعل التوبة أمراً شبه مستحيل.
الندم الإلهي (بمفهوم بشري): "فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنْهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ."
المعنى اللاهوتي: الله لا يندم بالمعنى البشري (لأنه كامل المعرفة)، لكن هذا تعبير بلغة بشرية (أنثروبومورفيزم) يُعبِّر عن ألم الله العميق لفساد خليقته ومصيرها. إنه تعبير عن عدله وغضبه المُقدَّس من الخطيئة.
القرار النهائي: "أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ." عقوبة الطوفان هي تطهير شامل للخليقة من الفساد الذي سادها.
3. نوح... وجد نعمة في عيني الرب (الآيات 8-12)
الاستثناء الوحيد: "وَأَمَّا نُوحٌ فَوَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ."
النعمة أساس الخلاص: نوح لم يخلص ببره الذاتي الكامل، بل بـ "نعمة" الله التي اختارته، ثم استجاب نوح لهذه النعمة بأعمال البر.
وصف نوح: "كَانَ نُوحٌ رَجُلاً بَارًّا وَكَانَ كَامِلاً فِي أَجْيَالِهِ، وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللهِ."
باراً: مستقيماً في علاقته بالآخرين.
كاملاً في أجياله: لم ينغمس في فساد عصره ولم يتلوث بخطيئته.
سار مع الله: مثل أخنوخ، كانت له شركة روحية مستمرة مع خالقه. هذا الثناء يُعد نقطة ضوء في وسط الظلام الكوني.
الفساد يصل لذروته: "وَفَسَدَتِ الأَرْضُ أَمَامَ اللهِ، وَامْتَلأَتِ الأَرْضُ ظُلْمًا." الفساد الكلي يفرض التدخل الإلهي.
4. وصية بناء الفلك والعهد الإلهي (الآيات 13-22)
إعلان الخطة: "نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ أَمَامِي... فَهَا أَنَا مُفْسِدٌ الأَرْضَ." إعلان إلهي بأن العقوبة قد حانت.
أمر بناء الفلك (رمز الخلاص): يُعطى الله نوحاً تعليمات دقيقة ومفصلة لبناء الفلك (نوع الخشب، الأبعاد، التقسيمات، طلاؤه بالقار).
الدلالة اللاهوتية للفلك: الفلك هو رمز لـ الكنيسة، سفينة الخلاص.
الأبعاد: تشير إلى حدود الخطة الإلهية للخلاص.
الطريق الوحيد: النجاة كانت مقتصرة على من دخل الفلك، كما أن الخلاص مُقيَّد بمن يدخلون إلى جسد المسيح (الكنيسة).
إقامة العهد: "وَلكِنْ أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ، فَتَدْخُلُ الْفُلْكَ أَنْتَ وَبَنُوكَ وَامْرَأَتُكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ."
هذا هو ثاني عهد إلهي في الكتاب المقدس (بعد عهد جنة عدن). إنه عهد للحفظ والنجاة، ويؤكد على أن الخلاص يتم بالنعمة الإلهية المحددة.
النسل والحياة: يشمل العهد حفظ نسل البشرية وحفظ أزواج من كل حيوان.
طاعة نوح: "فَفَعَلَ نُوحٌ حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرَهُ بِهِ اللهُ. هكَذَا فَعَلَ."
جوهر البر: الطاعة الكاملة هي جوهر البر الذي تميز به نوح. لقد كان إيمانه عاملاً (بنى فلكاً ضخماً على اليابسة) واستجاب لنداء الله دون تردد، مؤكداً أن الاستجابة للنعمة تكون بالطاعة العملية.

تعليقات
إرسال تعليق