تفسير الاصحاح الثاني من سفر التكوين




​🌳 الأصحاح الثاني من سفر التكوين: 


الإنسان، الجنة، والوصية

​الأصحاح الثاني ليس إعادة لقصة الخلق، بل هو توسع في التفاصيل المتعلقة بالإنسان (آدم) ومحيطه المباشر، مُستخدماً اسم "الرب الإله" (يهوه ألوهيم)، مما يشير إلى العلاقة الشخصية والعهد بين الخالق والمخلوق.


​🕊️ 1. اليوم السابع والراحة الإلهية (الآيات 1-3)

​"فَأُكْمِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا.": يشير إلى اكتمال النظام الكوني.

​"وَاسْتَرَحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ.":

​الراحة الإلهية: لا تعني التوقف عن العمل أو التعب (فالله لا يتعب)، بل تعني إتمام العمل وكماله. الله يثبت النظام الذي خلقه ويستمر في حفظه.

​تقديس اليوم السابع: الله بارك اليوم السابع وقدسه. هذا هو أساس السبت في العهد القديم، وفي المسيحية يتحوَّل إلى يوم الأحد (يوم القيامة)، الذي يمثل راحة الإنسان في المسيح والاشتراك في الراحة الأبدية والملكوت السماوي.


​👤 2. خلق الإنسان بالتفصيل ومسكنه (الآيات 4-17)


​أ. خلق آدم (الآيات 7-8)

​"وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً.": هذه الآية تحدد الطبيعة المزدوجة للإنسان:

​الجسد (التراب): طبيعة مادية مرتبطة بالأرض والخليقة.

​الروح (نَسَمَةَ حَيَاةٍ): طبيعة روحية ونفخة إلهية مباشرة، تمنح الإنسان الروحانية والخلود والصورة الإلهية.

​ الإنسان هو "ميكروكوزموس" (عالم صغير) يجمع في كيانه بين المادة (التراب) والروح (النَسَمة الإلهية)، وهو الجسر بين الخليقة المادية والروحية.

ب. جنة عدن ورسالته (الآيات 8-15)

​جنة عدن: مكان معد ومقدس زرعه الرب الإله ليكون مسكناً للإنسان. هي حالة الشركة والسلام مع الله.

​شجرتي المعرفة والحياة:

​شجرة الحياة: هي وسيلة الخلود والحياة الأبدية، وتمثل الشركة الكاملة مع الله.

​شجرة معرفة الخير والشر: ليست شجرة شريرة، بل هي اختبار لطاعة الإنسان. المعرفة هنا تعني القدرة على التقرير الذاتي (السلطة على التمييز)، وهي سلطة تخص الله وحده. الإنسان يجب أن ينال هذه المعرفة من خلال الطاعة لله وليس بالتمرد عليه.

​مهمة الإنسان في الجنة: "لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا." (تك 2: 15)

​يعملها (الخدمة): يشير إلى الجهاد الروحي وخدمة الخليقة.

​يحفظها (الحراسة): يشير إلى حماية الجنة والوصية من قوى الشر (إشارة مبكرة إلى صراع محتمل).


ج. الوصية الإلهية الأولى (الآيات 16-17)

​الوصية: "أَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ."

​الغاية من الوصية: هي إظهار الحرية الإنسانية ومسؤوليتها. الله خلق الإنسان حراً، والطاعة هي تعبير عن هذه الحرية الإيجابية.

​"موتاً تموت": هذا الموت ليس جسدياً فورياً (لأن آدم عاش لمئات السنين)، بل هو:

​الموت الروحي: الانفصال عن الله مصدر الحياة.

​الموت الجسدي: الحكم بالموت على الجسد كعقوبة لاحقة.


​💑 3. تأسيس الزواج (الآيات 18-25)

​أ. لا حَسَنٌ أن يكون آدم وحْدَهُ (الآية 18)

​الحاجة إلى المعين: الوحدة هنا لا تعني النقص، بل الحاجة إلى شريك لمشاركة صورة الله. الإنسان خُلق ليعيش في شركة وحب (على صورة الثالوث).

​تسمية الحيوانات: قام آدم بتسمية الحيوانات، وهو عمل يعبر عن سلطان العقل والسيادة على الخليقة، ولكنه لم يجد مُعيناً نظيره (مشابهاً له في الطبيعة الروحية والجسدية). 


​ب. خلق حواء (الآيات 21-22)

​الخلق من الضلع: "وَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ."

​الدلالة اللاهوتية: أخذها من ضلعه ليعلن أنها مساوية له في الكرامة والطبيعة (ليست من قدمه لتداس ولا من رأسه لتتسيَّد). الضلع مكان قريب من القلب ليُعطى لها المحبة والحنان والحماية.

​السبات (التخدير): يرمز إلى أن الزواج سر إلهي لا يدركه الإنسان بعقله، بل يتأسس بعمل إلهي.


ج. إعلان آدم وتأسيس سر الزواج (الآيات 23-24)

​اعتراف آدم: "هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي." اعتراف بالوحدة الجسدية والطبيعية.

​قاعدة الزواج: "لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا."

​الجسد الواحد: هذه هي الذروة اللاهوتية في الأصحاح. الزواج سر اتحاد لا ينفصم، ويعكس سر اتحاد المسيح بكنيسته. الهدف ليس مجرد الإنجاب، بل تحقيق الكمال الروحي في إطار الحب والشركة.


​الأصحاح الثاني هو أساس ثلاثة مفاهيم لاهوتية رئيسية:

حرية الإرادة: خلق الإنسان حراً ومسؤولاً عن قراراته (الوصية والاختبار).

​قداسة الزواج: تأسيس الزواج على يد الله كسر مقدس، وهو اتحاد روحي وجسدي لا ينفصم.

​الجسد والروح: طبيعة الإنسان الفريدة التي تجمع بين المادة والروح، مما يجعله مدعواً للخلود.



التوافق العلمي في الاصحاح الثاني:


​1. تكوين الإنسان من التراب (الآية 7)

النص: "وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً."


التوافق العلمي: الإشارة إلى "التراب" تتوافق مع الاكتشافات الحديثة في علم الكيمياء الحيوية، التي تُثبت أن جسم الإنسان يتكون أساساً من نفس العناصر الكيميائية (مثل الكربون، والهيدروجين، والأكسجين، والنيتروجين، والحديد، والكالسيوم) الموجودة بوفرة في قشرة الأرض (التراب)


التحفظ: الكنيسة تؤكد أن هذه الآية تُركِّز على تواضع المادة البشرية (التي تعود إلى التراب) وتمييزها عن النفخة الإلهية (الروح)، والهدف اللاهوتي هنا هو إظهار الشركة بين المادة والروح، وليس تقديم تحليل كيميائي.



2. خلق حواء من ضلع آدم (الآيات 21-22)

​النص: "فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، وَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً..."

يقولون ان​ القدرة المحدودة للعظام على تجديد نفسها، خاصة أن عظام القفص الصدري قد تكون لديها قدرة أكبر على النمو والالتئام من بعض العظام الأخرى، أو يُشار إلى أن الضلع هي العظمة الوحيدة التي لم تؤثر إزالتها على شكل الإنسان الأساسي.


​التحفظ: هذا التفسير غير مُقنع علميًا أو لاهوتيًا. التفسير الأرثوذكسي يُركز بشكل مطلق على الدلالة الرمزية واللاهوتية للضلع: المساواة في الكرامة، والوحدة، وأن المرأة خُلقت من جوهر الرجل ليكون الزواج اتحاداً لا ينفصم. الهدف هو تأسيس سر الزواج، وليس وصف عملية جراحية.


​3. جنة عدن ومنابع الأنهار (الآيات 10-14)

​النص: يوصف مكان الجنة بأربعة أنهار: فيشون، جيحون، دجلة (حَدَّاقَ)، والفرات.

​التوافق الجغرافي: دجلة والفرات هما نهران حقيقيان يمثلان مهد الحضارات. حاول الكثيرون تحديد موقع الأنهار الأخرى (فيشون وجيحون) ولكن محاولاتهم باءت بالفشل.

​التفسير: ترى الكنيسة الأرثوذكسية أن الوصف التفصيلي لموقع الجنة كان ضرورياً لمخاطبة فهم الناس في ذلك الوقت، ولكنه قد يشير إلى أن الجنة كانت موجودة في مكان جغرافي محدد قبل أن تتغير معالم الأرض لاحقًا بسبب الطوفان. كما أن الجنة في معناها الروحي هي حالة الشركة مع الله، والتي ارتفعت فوق نطاق الجغرافيا بعد السقوط.


​👑 التقليد الأرثوذكسي يؤكد على أن الأصحاح الثاني لسفر التكوين هو أساس:

​ الأنثروبولوجي: كيف خلق الله الإنسان (جسد وروح).

​ العمل: وضع الإنسان في الجنة لـ "يعملها ويحفظها" (الخدمة).

​ الزواج: تأسيس العلاقة بين الرجل والمرأة كـ "جسد وا حد" (السر المقدس).

​ الوصية: إظهار الحرية الإنسانية ومسؤوليتها تجاه الخالق.


تعليقات

الأكثر مشاهدة

تفسير سفر التكوين الاصحاح الاول

تفسير الاصحاح الخامس من سفر التكوين

تفسير سفر التكوين بالكامل