تفسير الاصحاح الثالث من سفر التكوين
🐍 الأصحاح الثالث من سفر التكوين:
السقوط والوعد بالخلاص
يُعد الأصحاح الثالث من سفر التكوين أحد أهم النصوص اللاهوتية، لأنه يسرد قصة سقوط الإنسان من حالته الأصلية المقدسة إلى حالة الخطيئة والموت، مُوضحاً دخول الشر إلى العالم، ولكنه يختتم بـ الوعد بالخلاص.
1. إغواء الحية وسقوط الإنسان (الآيات 1-7)
أ. طبيعة المُجرِّب (الحية)
"وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ.":
الحية والشر: الحية هنا ليست مجرد حيوان، بل هي أداة يستخدمها الشيطان (إبليس). هي رمز للمكر والخداع. في التقليد اللاهوتي، يُفهم أن الشيطان هو كائن ساقط حاول إفساد خلق الله الكامل.
أسلوب الإغواء: يبدأ الشيطان بالتشكيك في كلمة الله: "أَحَقًّا قَالَ اللهُ؟" هذا التشكيك هو أول سلاح في محاربة الإيمان.
ب. استجابة المرأة واكتمال التعدي
زيادة على الوصية: المرأة (حواء) تزيد على وصية الله قائلة: "وَلاَ تَمَسَّاهُ" (لم يقل الله هذا)، مما يدل على أن فهمها للوصية لم يكن دقيقاً وكاملاً.
ثلاثة خطوط للهجوم الشيطاني (التي يوضحها يوحنا الرسول لاحقاً 1 يو 2: 16):
شهوة الجسد: "الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ."
شهوة العيون: "أَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ."
تَعَظُّم المعيشة (الكبرياء): "وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ وَتُعْطِي فَهْمًا." (الوعد الباطل: "تَصِيرَانِ مِثْلَ اللهِ عارِفِينَ الخَيْرَ والشَّرَّ").
الخطيئة: لم تكن الخطيئة مجرد أكل ثمرة، بل هي تعدٍّ على سلطان الله ومحاولة الاستقلال عنه، واستبدال الطاعة الإلهية بالإرادة الذاتية.
ج. نتائج السقوط الفورية
انفتاح الأعين: "فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ." هذا الانفتاح ليس معرفة إيجابية، بل هو وعي مؤلم بالذنب والضعف والانفصال. فقدوا حالة البراءة.
صناعة مآزر: محاولة الإنسان الأولى لتغطية خطيئته بذاته (أوراق التين)، وهو رمز لجهود الإنسان الذاتية لتبرير نفسه بدلاً من الاعتماد على نعمة الله.
2. المواجهة الإلهية والهروب (الآيات 8-13)
أ. ظهور صوت الله
"وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِيًا فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ.": هذا يرمز إلى حضور الله الشخصي (التجلي) الذي كان يشارك به الإنسان يومياً قبل السقوط.
الهروب والاختباء: بدلاً من اللقاء بفرح، كان الرد هو الخوف والاختباء. الخطيئة تسبب الخوف وتكسر الشركة بين الإنسان وخالقه.
ب. المسؤولية وإلقاء اللوم
سؤال الله لآدم: "أَيْنَ أَنْتَ؟" ليس سؤالاً عن مكان، بل عن حالته الروحية.
تجنُّب المسؤولية:
آدم يلوم حواء والله: "الْمَرْأَةُ الَّتِي أَعْطَيْتَنِي مَعِي، هِيَ أَعْطَتْنِي فَأَكَلْتُ." (لوم الشريك ثم لوم الخالق).
حواء تلوم الحية: "الْحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ."
هذا يوضح أن الخطيئة لا تدمر الشركة مع الله فقط، بل تفسد الشركة بين البشر (الزواج الذي كان رمزاً للوحدة في الأصحاح الثاني).
3. نتائج السقوط وعقوبات الخطيئة (الآيات 14-19)
تتخذ العقوبة شكل اللعنة على أسباب السقوط ونتائجه:
أ. لعنة الحية (والشيطان) (الآيات 14-15)
الحكم على الحية: الزحف على البطن وأكل التراب.
النبوءة: "وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ."
هذا هو الوعد الإلهي بالخلاص؛ نسل المرأة (المسيح) سيأتي ليدوس رأس الحية (الشيطان) ويدمره، ورغم أن المسيح سيتألم (سحق العقب)، إلا أن النصر سيكون له. هذا هو أول إعلان عن التدبير الإلهي للفداء.
ب. الحكم على المرأة (الآيات 16)
الألم في الحمل والولادة: نتيجة لفساد الجسد وخروجه عن النظام الأصلي.
الخضوع للرجل: "وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَتَسَلَّطُ عَلَيْكِ." هذا ليس نظاماً إلهياً أصلياً، بل هو نتيجة للخطيئة التي أفسدت العلاقة المتساوية في الجنة، وأصبح فيها تسلط بدلاً من محبة متكاملة.
ج. الحكم على الرجل (الآيات 17-19)
لعنة الأرض: "مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ." العمل الذي كان فرحاً في الجنة أصبح مُتعباً وشاقاً، مليئاً بالأشواك والحسك.
العقوبة النهائية: "بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ." تأكيد على الموت الجسدي كنتيجة مباشرة للموت الروحي (الانفصال عن الله).
4. الستر الإلهي والطرد من الجنة (الآيات 20-24)
أ. الستر بالنعمة
تسمية حواء: "وَدَعَا آدَمُ اسْمَ امْرَأَتِهِ حَوَّاءَ، لأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ." إعلان للإيمان بوعد الله بأن الحياة ستستمر، وأنها ستكون أصل النسل الذي سيأتي منه المخلِّص.
الثياب الجلدية: "وَصَنَعَ الرَّبُّ الإِلهُ لآدَمَ وَامْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا."
هذا يمثل أول عمل لـ فداء النعمة. الله نفسه ستر عُرْيهم. الأقمصة الجلدية تشير ضمناً إلى ذبيحة (موت كائن حي لتغطية خطيئة الإنسان)، وهو رمز للذبيحة الأعظم (المسيح) الذي سيستر البشرية بدمه.
ب. الطرد من الجنة
السبب: لئلا "يَمُدَّ يَدَهُ وَيَأْخُذَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلَ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَدِ."
هذا الطرد هو عمل رحمة وحب. لو أكل الإنسان الخاطئ من شجرة الحياة، لكان أبَّدَ حالته الخاطئة إلى الأبد. الله طرد الإنسان ليمنحه فرصة التوبة والاستعداد للحياة الأبدية المُقدمة بواسطة الفداء.
الشاروبيم والسيف المتقلِّب: وضع الله حراسة لئلا يعود الإنسان إلى الجنة بذاته، مؤكداً أن العودة إلى الشركة الكاملة والحياة الأبدية لا يمكن أن تكون بجهد إنساني، بل بالتدخل الإلهي.
🌟 الأصحاح الثالث هو أساس عقيدة الخطيئة الأصلية (أو الجدية). يوضح أن الإنسان ليس مجرد كائن ساقط، بل هو مدعو للخلاص من خلال وعد الله، وأن الله لم يتخلَّ عن خليقته، بل بدأ فوراً تدبيره للفداء.

تعليقات
إرسال تعليق