تفسير الاصحاح الرابع من سفر التكوين
🔪 الأصحاح الرابع من سفر التكوين: نتائج الخطيئة الأولى وميلاد العهد
يتناول هذا الأصحاح النتائج المباشرة والعملية لسقوط الإنسان (الذي حدث في الأصحاح الثالث). إنه يسرد قصة أول ولادة، وأول جريمة، وأول دينونة بشرية، ويبدأ في إظهار كيف يسعى الله للحفاظ على نسل الحياة والبركة.
1. ميلاد قايين وهابيل (الآيات 1-2)
ميلاد قايين: "وَعَرَفَ آدَمُ حَوَّاءَ امْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ قَايِينَ، وَقَالَتْ: «اقْتَنَيْتُ رَجُلاً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ»."
"اقْتَنَيْتُ رَجُلاً مِن عِندِ الرَّبِّ": يرى بعض المفسرين أن حواء كانت تعتقد في البداية أن قايين هو "النسل الموعود" (الذي سيسحق رأس الحية)، وذلك إشارة إلى رجائها في الخلاص الفوري بعد الطرد من الجنة. لكن هذا الرجاء خاب.
ميلاد هابيل وعملهما:
قايين: كان "عَامِلاً فِي الأَرْضِ" (زارعاً). يرمز إلى الجهد الذاتي للإنسان في استخراج رزقه من الأرض الملعونة.
هابيل: كان "رَاعِياً لِلْغَنَمِ". يرمز إلى الحياة الرعوية والأكثر بساطة، ومهنة الرعي دائماً تحمل دلالات روحية في الكتاب المقدس (الراعي الصالح).
2. القرابين والغيرة (الآيات 3-7)
القرابين:
قايين: "جَاءَ مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ بِقُرْبَانٍ لِلرَّبِّ." قربان من عمله الذاتي.
هابيل: "جَاءَ هُوَ أَيْضاً مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا." قربان دموي، يشمل أفضل ما عنده (الأبكار والسِمان).
قبول القربان: "فَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ، وَلكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ."
سبب القبول والرفض: يوضح التقليد اللاهوتي أن الرفض لم يكن لـ نوع القربان فقط، بل لـ قلب المُقدِّم (الآية 7: "إِنْ أَحْسَنْتَ أَفَلاَ رَفْعٌ؟"). هابيل قدم بالإيمان (عب 11: 4)، مقدماً أفضل ما لديه وبقلب مستقيم، بينما قدم قايين بلا إيمان أو محبة، وكان قلبه مليئاً بالكبرياء والرياء.
تحذير الله لقايين: "لِمَاذَا اغْتَظْتَ؟... عِنْدَ الْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ، وَإِلَيْكَ اشْتِيَاقُهَا، وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا." تحذير أبوي من الله يوضح أن الخطيئة قوة قائمة بذاتها (رابضة كحيوان مفترس)، ولكن الإنسان يمتلك حرية الإرادة والقدرة على السيطرة عليها.
3. أول جريمة قتل (الآيات 8-12)
الجريمة: قايين يقوم بقتل أخيه هابيل في الحقل. هذه هي النتيجة المدمرة لخطيئة الآباء (السقوط)، حيث تتحول العلاقة الأخوية من المحبة إلى الحسد والقتل. هابيل يُعد أول شهيد للبر في تاريخ البشرية.
سؤال الله لقايين: "أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟" سؤال عن العلاقة والمسؤولية.
رد قايين البارد: "لاَ أَعْلَمُ. أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟" إنكار للذنب وتملص من المسؤولية الأخلاقية.
الدينونة الإلهية: "صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ." يؤكد أن الدم البريء يصرخ إلى الله طلباً للعدل.
عقوبة قايين:
لعنة الأرض: لا تعود تعطيه قوتها (فشل في مهنته كزارع).
التيه والتشرد: يصبح "تَائِهاً وَهَارِباً فِي الأَرْضِ." فقدان السكينة الداخلية والاستقرار الخارجي.
4. قلق قايين ورحمة الله (الآيات 13-16)
ندم قايين (الخوف لا التوبة): قايين يعترف بأن "ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ"، لكن اعترافه ينبع من الخوف من العقوبة (القتل على يد أي شخص يجده) وليس من التوبة على الجريمة.
الرحمة الإلهية (العلامة): "فَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلاَمَةً لِكَيْ لاَ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ."
الله يدين الخطيئة، ولكنه يضبط العدل بالرحمة. حتى القاتل، يظل خليقة الله، والله لا يتركه للانتقام البشري المفرط (سبعة أضعاف).
العلامة: ليست وشماً أو سمة عار، بل هي ضمانة إلهية لحياة قايين، هدفها أن تعطيه فرصة للتوبة.
استقرار قايين: قايين يغادر حضور الرب الإله ويسكن في "أَرْضِ نُودٍ" (تعني "التيه" أو "التشرد") شرق عدن.
5. نسل قايين وتطور الحضارة الفاسدة (الآيات 17-26)
تأسيس أول مدينة: قايين يبني مدينة ويدعوها باسم ابنه "خَنُوخَ". هذا يدل على أن نسل قايين سعى إلى الاستقرار والحماية الذاتية بعيداً عن الله.
نمو الحضارة والتدهور الروحي: يظهر من نسل قايين تطور في المجالات المادية:
يَابَالُ: "أَبُو سَاكِنِي الْخِيَامِ وَرُعَاةِ الْمَوَاشِي" (تطور في الحياة الرعوية).
يُوبَالُ: "أَبُو كُلِّ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ بِالْعُودِ وَالْمِزْمَارِ" (تطور في الفنون والموسيقى).
تُوبَالُ قَايِينَ: "ضَارِبُ كُلِّ آلَةٍ مِنْ نُحَاسٍ وَحَدِيدٍ" (تطور في الصناعات المعدنية).
شريعة لَامَكَ (الآيات 23-24): لامك (أحد أحفاد قايين) يعلن عن تعدد الزوجات ويُظهر مدى العنف والتبجح في هذا النسل: "إِنَّ قَايِينَ يُنْتَقَمُ مِنْهُ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ، فَلاَمَكُ سَبْعَةً وَسَبْعِينَ ضِعْفاً." هذا يدل على تدهور الشريعة الأخلاقية وتحوُّل العدالة إلى انتقام مفرط.
6. نسل التعزية والرجاء (الآيات 25-26)
ميلاد شِيثَ: "وَأَطْلَقَتِ اسْمَهُ شِيثَ، قَائِلَةً: «لأَنَّ اللهَ قَدْ وَضَعَ لِي نَسْلاً آخَرَ عِوَضاً عَنْ هَابِيلَ، لأَنَّ قَايِينَ قَتَلَهُ»."
شِيثَ (تعني "وضع" أو "استبدال"): يمثل التعزية الإلهية بعد فقدان هابيل. هذا النسل هو الذي يحمل الرجاء الروحي وخط الخلاص.
بدء عبادة الرب: "وَلِشِيثَ أَيْضاً وُلِدَ ابْنٌ دَعَا اسْمَهُ أَنُوشَ. حِينَئِذٍ ابْتُدِئَ أَنْ يُدْعَى بِاسْمِ الرَّبِّ."
في نسل شيث، بدأت العبادة الجماعية العلنية والعودة إلى الرب، ليميز هذا النسل نفسه عن نسل قايين الذي ابتعد عن الله وانغمس في العنف والغرور الحضاري. هذا النسل (نسل شيث) هو الذي سيؤدي في النهاية إلى ميلاد نوح ومنه إلى إبراهيم ثم إلى المسيح.
🌟
الأصحاح الرابع يوضح أن الخطيئة لها نتائج مدمرة ليس فقط على الفرد بل على المجتمع (القتل والعنف وتعدد الزوجات). ومع ذلك، يُظهر هذا الأصحاح رحمة الله (حماية قايين) وأمانته في تحقيق الوعد (إقامة نسل شيث لاستمرار العبادة وتطبيق خطة الخلاص).

تعليقات
إرسال تعليق