تفسير الاصحاح التاسع من سفر التكوين
🌈 الأصحاح التاسع من سفر التكوين: العهد النّوحيّ وميثاق قوس قزح
يُعد هذا الأصحاح حجر الزاوية للمرحلة الجديدة من تاريخ البشرية، التي تبدأ بعد الطوفان. إنه يُرسي قواعد العلاقة بين الله والإنسان والطبيعة.
1. البركة الجديدة والتفويض الإلهي (الآيات 1-7)
التفويض والبركة: "وَبَارَكَ اللَّهُ نُوحاً وَبَنِيهِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ»."
هذه هي نفس البركة والتفويض الذي أُعطي لآدم وحواء في جنة عدن (تك 1: 28). هذا يؤكد أن نوح وعائلته هم البداية الجديدة للبشرية، وأن خطة الله في التكاثر والسلطان لم تتغير.
سلطان على الحيوانات: "فَتَكُنْ خَشْيَتُكُمْ وَرَهْبَتُكُمْ عَلَى كُلِّ حَيَوَانَاتِ الأَرْضِ..."
بالرغم من أن السلطان على الحيوانات قد استمر، إلا أنه أصبح مصحوباً بـ الخوف والرهبة (خشية ورهبة). هذا يختلف عن علاقة السلام التام التي كانت في الجنة، ويُظهر أن الفساد أثّر على العلاقة بين الإنسان والحيوان.
إباحة أكل اللحم (بشرط):
القاعدة الجديدة: "كُلُّ دَابَّةٍ حَيَّةٍ تَكُونُ لَكُمْ طَعَاماً." سمح الله بأكل لحوم الحيوانات (لم يكن مسموحاً به قبل الطوفان)، وهذا يمثل تنازلاً إلهياً يلائم الطبيعة المتغيرة للإنسان والأرض بعد الطوفان.
الشرط المقدس: "غَيْرَ أَنَّ لَحْماً بِدَمِهِ لاَ تَأْكُلُوهُ." هذا قيد مهم جداً: الدم هو الحياة (النفس)، والله يحفظه لنفسه. هذا يُرسي أساساً مقدساً لـ حرمة الحياة، وسيتطور لاحقاً إلى شريعة الذبائح.
2. حرمة دم الإنسان وقانون القتل (الآيات 5-7)
حرمة الحياة البشرية: "وَأَطْلُبُ أَنَا دَمَكُمْ لأَنْفُسِكُمْ. مِنْ يَدِ كُلِّ حَيَوَانٍ أَطْلُبُهُ، وَمِنْ يَدِ الإِنْسَانِ أَطْلُبُ دَمَ الإِنْسَانِ."
الله هو الوكيل الأول لحماية حياة الإنسان. الحياة مقدسة أمام الله.
قانون القتل: "سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ. لأَنَّ اللَّهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الإِنْسَانَ."
هذا هو أول أساس لـ قانون القصاص أو العدالة البشرية. العقوبة المفروضة على القاتل هي الإعدام.
السبب اللاهوتي: العقوبة صارمة جداً لأن قتل الإنسان هو تعدٍّ على صورة الله، وبالتالي، هو تعدٍّ مباشر على الخالق نفسه. هذا يرفع من كرامة الإنسان لأقصى درجة بعد الطوفان.
3. العهد النّوحيّ (الآيات 8-17)
طبيعة العهد: "وَهَا أَنَا مُقِيمٌ عَهْدِي مَعَكُمْ وَمَعَ نَسْلِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ..."
هذا العهد هو عهد عالمي (Universal Covenant) وليس فقط مع نوح وعائلته. إنه يشمل كل نسل البشرية القادم وكل الكائنات الحية.
العهد غير مشروط: لا يتوقف تحقيقه على طاعة الإنسان، بل هو وعد إلهي مطلق.
وعد العهد: "فَلاَ يَعُودُ كُلُّ ذِي جَسَدٍ يَنْقَرِضُ بِمِيَاهِ الطُّوفَانِ، وَلاَ يَكُونُ أَيْضاً طُوفَانٌ لِإِفْسَادِ الأَرْضِ."
علامة العهد (قوس قزح): "جَعَلْتُ قَوْسِي فِي السَّحَابِ فَتَكُونُ عَلاَمَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَ الأَرْضِ."
الرمزية: القوس عادةً هو رمز للحرب. عندما يظهر القوس في السحاب موجَّهاً إلى السماء (باتجاه الله وليس باتجاه الأرض)، فهو يرمز إلى أن الله قد أنهى حربه على الأرض (دينونة الطوفان) وأن وعده بالسلام قد تم. هو علامة رحمة من الله.
4. حادثة نوح وعائلته (الآيات 18-29)
أصول الأمم: يُذكر أبناء نوح الثلاثة (سام، حام، يافث) كأصل "تَفَرَّقَتْ ذُرِّيَّةُ الْجَدِيدَةُ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ."
سقوط نوح: "وَابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلاَّحاً وَغَرَسَ كَرْماً. وَشَرِبَ مِنَ الْخَمْرِ فَسَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ."
هذا السقوط يُذكِّر بضعف الطبيعة البشرية بعد الطوفان. حتى الرجل البار والمختار لم يكن كاملاً، بل سقط في ضعف الجسد والسكر.
تصرف الأبناء ونتائجه:
حام (أبو كنعان): رأى عورة أبيه ولم يسترها، بل أخبر إخوته بـ سخرية واستهزاء (قلة احترام وسوء تصرف).
سام ويافث: أخذا الرداء وسارا إلى الخلف وسترا عورة أبيهما باحترام وتقدير (تصرف يدل على البر والتقوى).
نبوءة نوح (عندما استيقظ): نوح ينطق بثلاث نبوءات:
لعنة كنعان (ابن حام): "مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ." اللعنة هنا تقع على كنعان (الذي سيصبح نسل شرير لاحقاً)، وليس على حام نفسه مباشرة، كنتيجة لخطأ حام.
بركة سام: "مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ..." سام هو النسل الذي سيحمل العهد الإلهي ويحافظ على اسم الله (من نسله سيأتي إبراهيم والمسيح).
بركة يافث: "لِيَفْتَحِ اللَّهُ لِيَافَثَ فَيَسْكُنَ فِي مَسَاكِنِ سَامٍ، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْداً لَهُمْ." يافث يمثل التوسع الجغرافي (أوروبا وآسيا الصغرى)، ونبوءة مسكنه في خيام سام تشير إلى مشاركته الروحية في بركة سام، وهي إشارة مبكرة لقبول الأمم (نسل يافث) للإيمان لاحقاً.
🌟
يُرسخ الأصحاح التاسع ثلاثة مفاهيم أساسية:
قدسية الحياة البشرية: أساس التشريع الإنساني يقوم على أن الإنسان مخلوق على صورة الله.
أمانة العهد: الله يلتزم بوعده بعدم إهلاك الأرض بالماء مرة أخرى، وعلامة قوس قزح هي تذكار دائم لذلك.
استمرار الصراع الروحي: حتى بعد تطهير الأرض، يظل ضعف الإنسان وسقوطه موجوداً (حادثة نوح والسكر)، مما يبرز الحاجة المستمرة إلى الخلاص الإلهي

تعليقات
إرسال تعليق