تفسير سفر الخروج بالكامل
الانتقال من سفر التكوين (سفر البدء والسقوط) إلى سفر الخروج هو انتقال من "الحاجة للخلاص" إلى "تحقيق الخلاص". سفر الخروج ليس مجرد قصة تاريخية لتحرر العبيد، بل هو أيقونة الحياة المسيحية بالكامل. إنه قصة العبور من "أرض العبودية" (الخطيئة) إلى "أرض الموعد" (ملكوت السموات).
كلمة "خروج" (Exodus) باليونانية تعني "الطريق للخارج". هو السفر الذي يُظهر الله ليس فقط كخالق (كما في التكوين)، بل كمخلص
إليك التفسير مقسماً لثلاثة محاور رئيسية:
المحور الأول: الخروج والتحرر (الإصحاحات 1-18)
هذا القسم يمثل مرحلة "المعمودية والولادة الجديدة".
1. العبودية وميلاد المخلص (ص 1-2)
مصر: في المفهوم الروحي ترمز لـ "العالم" أو "محبة الجسد"، وفرعون يرمز للشيطان الذي يستعبد الإنسان بقسوة.
موسى النبي: اسمه (المنتـشل من الماء). هو أعظم رمز للسيد المسيح في العهد القديم:
كلاهما تعرض للموت عند ولادته (فرعون/هيرودس).
كلاهما ترك المجد (قصر فرعون/مجد السماء) ليفتقد إخوته المذلين.
كلاهما كان مرفوضاً في البداية من شعبه ("من أقامك علينا رئيساً؟").
2. العليقة المشتعلة (ص 3)
رأى موسى شجرة مشتعلة بالنار ولم تحترق. هذا هو الرمز الكتابي والطقسي الأقوى للسيدة العذراء مريم (ثيؤطوكوس).
التفسير: كما أن العليقة حملت جمر النار ولم تحترق، هكذا حملت العذراء "نار اللاهوت" في بطنها ولم تحترق بلهيب قداسته. والله نزل ليخلص شعبه كما نزل في التجسد.
3. الضربات العشر (ص 7-11)
لم تكن مجرد عقاب، بل كانت حرباً ضد آلهة مصر. كل ضربة كانت تكسر إلهاً وثنياً (النيل، الشمس، الضفادع...). الله يعلن بطلان آلهة العالم.
4. خروف الفصح (ص 12) - قلب السفر
هذا أخطر وأهم إصحاح، لأنه يؤسس لفكرة "الدم" كوسيلة للخلاص.
الرمز: خروف، ذكر، حولي (شاب)، بلا عيب. (صفات المسيح).
عظم لا يُكسر منه: تحقق في المسيح على الصليب.
الدم على القائمتين والعتبة: علامة الصليب. الملاك المهلك يعبر (Pass-over) عندما يرى الدم.
يؤكل مشوياً بالنار مع أعشاب مرة: شركة آلام المسيح والتوبة المرة.
القديس بولس: "لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا" (1 كو 5: 7).
5. عبور البحر الأحمر (ص 14)
المعمودية: يعلن الكتاب "اعتمدوا جميعهم لموسى في السحابة وفي البحر".
عبور البحر هو موت للإنسان العتيق (غرق فرعون وجنوده = غرق الخطيئة والشيطان في جرن المعمودية)، وقيامة للإنسان الجديد على الشاطئ الآخر مسبحاً.
المحور الثاني: الرحلة والجهاد الروحي (الإصحاحات 15-18)
بعد المعمودية (البحر)، لا يدخلون الجنة فوراً، بل تبدأ "رحلة البرية". إنها حياتنا الحالية على الأرض.
شجرة مارَة (المياه المرة): طرح موسى شجرة في الماء فصار حلواً. الشجرة هي الصليب الذي يحول مرارة تجارب الحياة إلى تعزية حلوة.
المن والسلوى: الله يُعيل شعبه في البرية بـ "خبز من السماء". المن هو الرمز المباشر لجسد الرب ودمه (الإفخارستيا) الذي يعطينا حياة أبدية في رحلة غربتنا.
الصخرة التي تفيض ماءً: "والصخرة كانت المسيح" (1 كو 10: 4). ضُرب المسيح (الصخرة) على الصليب بالحربة، ففاض منه ينبوع الروح القدس (الماء والدم) ليروي عطش الكنيسة.
حرب عماليق (رفع اليدين): انتصر يشوع بالسيف، لكن السبب الحقيقي كان موسى الواقف على الجبل رافعاً يديه (علامة الصليب). الكنيسة تنتصر بالجهاد (يشوع) والصلاة (موسى).
المحور الثالث: العهد والسكنى (الإصحاحات 19-40)
الله لا يريد فقط أن يحرر شعبه، بل يريد أن يسكن في وسطهم.
1. استلام الشريعة (ص 19-24)
أعطاهم الوصايا لتكون دستور الحياة. الوصايا ليست قيوداً بل هي "طبيعة الله" (القداسة). من يحب الله يحفظ وصاياه.
2. خيمة الاجتماع (ص 25-40)
الله مهندس هذا البناء. أمر موسى بدقة متناهية لتفاصيلها لأنها "شبه السماويات". الخيمة هي رمز لجسد المسيح ورمز للكنيسة.
تابوت العهد: يمثل حضور الله (العرش).
المائدة وخبز الوجوه: شركة المسيح المشبعة.
المنارة الذهبية: الروح القدس الذي ينير الكنيسة.
مذبح البخور: صلوات القديسين المرفوعة دائماً.
الحجاب: الذي انشق يوم الصلب، مفتتحاً الطريق لقدس الأقداس (السماء).
ينتهي السفر بمشهد مهيب: "ثم غطت السحابة خيمة الاجتماع وملأ بهاء الرب المسكن" (خر 40: 34). الله صار يسكن مع شعبه (عمانوئيل).
تأمل أخير: الخروج المستمر
سفر الخروج ليس حدثاً انتهى، بل هو ديناميكية حياة يومية.
نحن جميعاً "إسرائيل الجديد".
مصر هي حالتك القديمة، عاداتك، وخطاياك المحبوبة التي تستعبدك.
موسى هو المسيح الذي يقرع باب قلبك ليخرجك.
الخروج يحتاج قراراً: "لا تلتفت إلى الوراء". المشكلة التي واجهت الشعب ليست أنهم تاهوا في الطريق، بل أن "قلوبهم رجعت إلى مصر". اشتاقوا للعبودية (السمك والبصل) واحتقروا الحرية والمن السماوي.
الرسالة العملية لك:
أنت الآن في البرية (حياتك على الأرض). قد تشعر بالعطش أو تواجه حروباً (عماليق/الشيطان).
لا تخف، لديك الصخرة (المسيح) لترتوي منها.
لديك المن (التناول) ليقويك.
لديك عمود السحاب والنار (الروح القدس) ليقودك.
الخروج الحقيقي ليس انتقال أقدام من مكان لمكان، بل انتقال القلب من محبة العالم إلى محبة الله. الله أخرج الشعب من مصر في ليلة واحدة، لكنه احتاج 40 سنة ليُخرج "مصر" من قلوبهم.
هل هناك "مصر" صغيرة في قلبك ما زلت تشتاق إليها وتمنعك من دخول أرض الموعد (التمتع الكامل بمحبة الله)؟

تعليقات
إرسال تعليق