تفسير سفر التكوين بالكامل





​مقدمة: مفتاح السفر (سفر البدايات)

​سفر التكوين هو "المشتل" الذي بذرت فيه كل الحقائق الإيمانية. ليس كتاب علوم بحتة، بل ككتاب علاقة الله بالإنسان. إنه رحلة من "جنة عدن المفقودة" إلى الوعد بـ "أورشليم السماوية".


​ينقسم السفر إلى قسمين رئيسيين:

​تاريخ البشرية العام (ص 1 - 11): الخلق، السقوط، الطوفان، بابل.

​تاريخ الآباء (ص 12 - 50): إبراهيم، إسحق، يعقوب، يوسف.


​القسم الأول: الخلق والسقوط (الإصحاحات 1-11)

​1. الخلق والثالوث (ص 1-2)

​في البدء خلق الله... هنا يظهر الثالوث القدوس. الآب يريد، والكلمة (الله قال) ينفذ، والروح القدس يرف على وجه المياه.

​الإنسان (آدم): خُلق على "صورة الله ومثاله". الصورة هي العقل والحرية والخلود، والمثال هو السعي للقداسة.

​الراحة (السبت): ليست تعبًا لله، بل راحة الله في خليقته، وهي رمز لراحتنا الأبدية في المسيح.


​2. السقوط والوعد الأول (ص 3)

​هذا هو أخطر فصل في تاريخ البشرية.

​الخطيئة: لم تكن مجرد أكل تفاحة، بل كانت رغبة في "التأله بدون الله" (الانفصال عن مصدر الحياة).

​النتيجة: الموت (انفصال الروح عن الله)، والعرى (فقدان نعمة الروح القدس).

​الأقمصة الجلدية: صنع الله لآدم وحواء أقمصة من جلد (تستلزم ذبح حيوان). هذا أول رمز للذبيحة؛ فستر عري الإنسان لا يتم إلا بسفك دم (رمز لدم المسيح الذي يسترنا).

​ في (تكوين 3: 15) وعد الله بأن "نسل المرأة يسحق رأس الحية". هذه أول نبوة عن التجسد والفداء.


​3. قايين وهابيل (ص 4)

​صراع بين ديانتين: ديانة الأعمال الذاتية (قايين قدم من ثمار الأرض دون دم)، وديانة الإيمان والدم (هابيل قدم ذبيحة دموية مقبولة). دم هابيل الصارخ هو رمز لدم المسيح الذي يتكلم أفضل من هابيل (عبرانيين 12: 24).


​4. نوح والطوفان (ص 6-9)

​الفلك: هو رمز للكنيسة. من هم داخل الفلك خلصوا، ومن هم خارجه هلكوا. خشب الفلك يرمز للصليب.

​الطوفان: يفسره القديس بطرس والآباء بأنه رمز للمعمودية. الماء يدفن الإنسان العتيق (الخطيئة) ويقيم الإنسان الجديد.

​الحمامة: رمز للروح القدس الذي يعلن السلام والمصالحة.


​القسم الثاني: الآباء (الإصحاحات 12-50)

​هنا يبدأ الله في تشكيل شعب خاص ليأتي منه المسيح

​1. إبراهيم: أب الإيمان (ص 12-25)

​الدعوة: "اخرج من أرضك". هي دعوة لكل مؤمن لترك محبة العالم والتبعية لله.


​لقاء ملكي صادق: (تكوين 14) شخصية غامضة، ملك وكاهن، قدم خبزًا وخمرًا (وليس ذبيحة دموية). هو الرمز الأقوى للمسيح (كاهن على رتبة ملكي صادق) وللإفخارستيا (التناول).


​ذبح إسحق (ص 22): قمة السفر.

​إبراهيم (الآب) يقدم ابنه الوحيد المحبوب (إسحق/المسيح).

​إسحق يحمل حطب المحرقة (المسيح يحمل الصليب).

​الموضع: جبل المريا (حيث بُني الهيكل وصلب المسيح لاحقاً).

​النتيجة: قام إسحق حياً (رمز للقيامة).


​2. إسحق ويعقوب: الاختيار والصراع (ص 25-36)

​إسحق: يمثل الخضوع لله والتأمل، وحفر الآبار (رمز للجهاد الروحي لاستخراج مياه الروح القدس).


​يعقوب: يمثل الإنسان المجاهد.

​سلم يعقوب: رأى سلماً واصلاً بين السماء والأرض. رمز للعذراء مريم التي حل عليها الروح القدس وتجسد منها المسيح، أو المسيح نفسه الذي صالح السماء والأرض.

​مصارعة الله (ص 32): تحول يعقوب من "متعقب" إلى "إسرائيل" (مجاهد مع الله). تعلمنا أن البركة تُنتزع بالجهاد والصلاة والدموع.


​3. يوسف الصديق: أعظم رمز للمسيح (ص 37-50)

​حياة يوسف هي "بروفة" لحياة المسيح بتطابق مذهل:

​كان محبوباً من أبيه، ومكروهاً من إخوته (لأنه كشف شرورهم).

​باعه إخوته بفضة (يهوذا الاسخريوطي).

​طُرح في الجب (القبر/الجحيم).

​خرج من السجن ليكون الرجل الثاني في مصر (القيامة وهزيمة الموت والصعود).

​صار مخلصاً للعالم (خبز الحياة) ولمصر (الأمم).

​في النهاية عرف إخوته بنفسه وسامحهم (خلاص اليهود في الأيام الأخيرة).

​يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "انظر إلى يوسف في السجن، وانظر إلى المسيح في القبر. يوسف خرج ليملك على مصر، والمسيح قام ليملك على العالم".

​سفر التكوين ينتهي بعبارة تبدو حزينة: "فمات يوسف... ووُضع في تابوت في مصر" (تكوين 50: 26).

هذه النهاية المفتوحة تصرخ بطلب المخلص. سفر التكوين يطرح المشكلة (الموت، السقوط، اللعنة)، والعهد الجديد يقدم الحل.

​تكوين 1: خلق الله السماوات والأرض.

 رؤيا 21: رأيت سماءً جديدة وأرضاً جديدة.

​تكوين 3: لُعنت الأرض ومُنع الإنسان من شجرة الحياة.

 رؤيا 22: لا تكون لعنة فيما بعد، وشجرة الحياة تعطي ثمرها.

سفر التكوين ليس كتاب "ماضي"، بل هو كتاب "حاضر".

​أنت آدم الذي يخطئ.

​أنت نوح الذي يحتاج للفلك (الكنيسة).

​أنت إبراهيم المطالب بتقديم أغلى ما يملك ذبيحة حب لله.

​أنت يوسف الذي يجب أن يسامح من أساء إليه لتتمجد.


​الله في سفر التكوين هو "إله البدايات الجديدة". مهما فسد العالم (الطوفان)، ومهما فسد الإنسان (آدم)، ومهما فسدت العائلة (إخوة يوسف)، الله قادر أن يحول الشر إلى خير ("أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به خيراً" - تك 50: 20).

تعليقات

الأكثر مشاهدة

تفسير سفر التكوين الاصحاح الاول

تفسير الاصحاح الخامس من سفر التكوين