تفسير الاصحاح 15 من سفر التكوين
🔥 الأصحاح الخامس عشر من سفر التكوين: التبرير بالإيمان وعهد النجوم
يأتي هذا الأصحاح مباشرة بعد انتصار إبراهيم الباسل في الحرب ورفضه لغنائم سدوم، حيث كان في أقصى درجات الإيمان والطاعة. هنا يدخل الله في حوار مباشر مع إبراهيم ليؤكد له وعوده.
1. إبراهيم يسأل والله يُجيب (الآيات 1-6)
كلمة الرب والوعد بالحماية: "بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ صَارَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى أَبْرَامَ فِي الرُّؤْيَا قَائِلاً: «لاَ تَخَفْ يَا أَبْرَامُ. أَنَا تُرْسٌ لَكَ. أَجْرُكَ كَثِيرٌ جِدّاً»."
سبب الخوف: ربما كان إبراهيم خائفاً من انتقام الملوك الذين هزمهم، أو كان حزيناً لأنه رفض غنائم سدوم.
الاستجابة الإلهية: الله يَعِدُه بـ حماية شخصية (أنا ترس لك) وبـ أجر عظيم (البركة). الأجر هنا ليس مالاً بل هو الله نفسه.
سؤال إبراهيم المؤلم (مشكلة النسل): "فَقَالَ أَبْرَامُ: «أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ، مَاذَا تُعْطِينِي وَأَنَا مَاضٍ عَقِيماً... فَهُوَذَا ابْنُ بَيْتِي وَارِثٌ لِي»."
إليعازر الدمشقي: كان إبراهيم يائساً من الوعد بالنسل لدرجة أنه فكر في أن يجعل خادمه (إليعازر) وريثاً له بحسب عادات ذلك الزمان. هذا يوضح أن أعظم تحدٍ لإيمان إبراهيم كان مسألة النسل الروحي.
الرد الإلهي (وعد النجوم): "فَأَخْرَجَهُ إِلَى خَارِجٍ وَقَالَ: «انْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ وَعُدَّ النُّجُومَ إِنِ اسْتَطَعْتَ عَدَّهَا». وَقَالَ لَهُ: «هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ»."
رمزية النجوم: النجوم ترمز إلى كثرة النسل الروحي (المؤمنون من الأمم)، الذي لا يمكن إحصاؤه، وهو نسل مختلف عن النسل الجسدي (تراب الأرض) الذي وُعِد به سابقاً.
التبرير بالإيمان: "فَآمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرّاً."
العمق اللاهوتي: هذه الآية هي مفتاح لاهوت الخلاص. إبراهيم لم يُحسَب باراً بسبب أعماله (كالحرب أو بناء المذابح)، بل بسبب إيمانه المطلق بكلمة الله ووعده المستحيل. الإيمان هو الوسيلة الوحيدة للتبرير أمام الله، وهذا هو الأساس الذي قامت عليه رسالة الرسول بولس (رو 4: 3-5).
2. إقامة العهد الرسمي (الآيات 7-18)
تأكيد الوعد بالأرض: الله يؤكد لإبراهيم أنه هو الذي أخرجه من أور الكلدانيين ليُعطيه الأرض.
إبراهيم يطلب دليلاً: "فَقَالَ: «أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ، بِمَاذَا أَعْلَمُ أَنِّي أَرِثُهَا؟»" إبراهيم لم يشكك في الله، بل طلب ضماناً رسمياً (عهداً) بحسب العادات المعروفة آنذاك.
طقس العهد (قطع الحيوانات):
أمر الله إبراهيم بأن يأخذ حيوانات مُحدَّدة (عجلة، معزاة، كبش، يمامة، وحمامة) ويقسمها نصفين ويضع كل شق مقابل الآخر.
كانت هذه العادة في ذلك الزمن تعني أن من يقطع العهد يمر بين الشقوق، مما يعني: "ليكن مصيري كمصير هذه الحيوانات المقطوعة إذا خالفت العهد."
إبراهيم لم يمر بين الشقوق.
السبات العميق والرعب (الآيات 12-16): "فَلَمَّا صَارَتِ الشَّمْسُ نَحْوَ الْغُرُوبِ، وَقَعَ عَلَى أَبْرَامَ سُبَاتٌ عَمِيقٌ، وَإِذَا رُعْبَةٌ مُظْلِمَةٌ عَظِيمَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَيْهِ."
الرؤية والنبوءة: في هذا السبات، يكشف الله لإبراهيم خطة المستقبل: عبودية نسله في مصر لمدة 400 سنة، ثم خروجهم منها بـ "أَمْلاَكٍ جَزِيلَةٍ" للعودة إلى كنعان. هذا يوضح أن طريق العهد ليس سهلاً بل يتضمن محنة وضيقة.
تأكيد العهد الإلهي (الآيات 17): "فَلَمَّا غَابَتِ الشَّمْسُ وَصَارَتِ الدُّنْيَا مُظْلِمَةً، إِذَا تَنُّورُ دُخَانٍ وَمِصْبَاحُ نَارٍ يَجُوزُ بَيْنَ تِلْكَ الشُّقَقِ."
تنور الدخان ومصباح النار: يرمزان إلى الحضور الإلهي (كما ظهر في خيمة الاجتماع). الله هو الوحيد الذي مر بين الشقوق.
المغزى اللاهوتي: العهد هنا هو من جانب واحد؛ الله هو الذي يلتزم بتنفيذ الوعد بالكامل دون أن يكون تنفيذ الوعد معتمداً على ضعف إبراهيم أو التزامه البشري. هذا العهد يضمن تحقق خطة الخلاص مهما كانت عثرات البشر.
3. حدود الأرض الموعودة (الآية 18-21)
تثبيت العهد: "فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقاً قَائِلاً: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ»."
حدود الأرض: تحدد الآيات حدود الأرض الموعودة، شاملة أسماء الشعوب الكنعانية التي سيتم طردها لاحقاً لفسادها. هذا الوعد يُظهر سيادة الله المطلقة على كل الأراضي.
🌟
الإيمان يُحسَب بِرّاً: هذا الأصحاح هو الشهادة الكتابية الأوضح على أن الإنسان يتبرر (يُحسَب باراً) أمام الله بالإيمان بوعوده، وليس بالأعمال أو الناموس.
أمانة العهد الإلهي: الله هو الذي تحمل مسؤولية إقامة العهد بالكامل (المرور بين الشقوق)، مما يؤكد أن خلاصنا لا يعتمد على قوتنا، بل على أمانة المسيح الذي حقق العهد بالكامل.
طريق الصليب: نبوءة الأربعمائة سنة في الضيق بمصر ترمز إلى أن طريق المجد (وراثة الوعد) يمر بالضرورة عبر الضيقة والمعاناة (كما حدث مع المسيح).

تعليقات
إرسال تعليق