تفسير الاصحاح 11 من سفر التكوين

 


🏗️ الأصحاح الحادي عشر من سفر التكوين: برج بابل وميلاد إبراهيم

هذا الأصحاح يمثل نقطة تحول هامة، حيث يظهر فيها تمرد البشرية على الوصية الإلهية بملء الأرض، ثم يعود السرد للتركيز على الخط المختار (نسل سام) استعداداً لدعوة إبراهيم.

 

1. قصة برج بابل (الآيات 1-9)

أ. وحدة اللغة والتمرد البشري (الآيات 1-4)

  • وحدة اللغة: "وَكَانَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا لِسَاناً وَاحِداً وَلُغَةً وَاحِدَةً." هذا يؤكد على الأصل الواحد للبشرية بعد الطوفان.

     

  • الخطة البشرية للتمرد: سافر الناس شرقاً حتى وصلوا إلى "أَرْضِ شِنْعَارَ" (العراق القديم، موطن نمرود)، وهناك قرروا:

     

    1. بناء مدينة وبرج: ليكون "رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ". هذا ليس هدفاً معمارياً، بل رمز للكبرياء والتبجح البشري، ومحاولة للوصول إلى السماء والخلود بقوتهم الخاصة، دون الحاجة إلى الله.

       

    2. الحفاظ على الوحدة: "لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ." هذا تمرد مباشر على الوصية الإلهية التي أُعطيت لنوح: "أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ" (تك 9: 1). أرادوا أن يقرروا مصيرهم ووحدتهم بمعزل عن الله.

       

ب. التدخل الإلهي والدينونة (الآيات 5-9)

  • نزول الرب للمعاينة: "فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا." هذا تعبير تصويري (بأسلوب بشري) يدل على أن الله لا يعطي حكمه إلا بعد فحص دقيق.

     

  • الحكم الإلهي: قال الرب: "هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ."

    • هذا اعتراف بأن اتحاد الإنسان في الشر يجعله قوياً جداً في التمرد على الإرادة الإلهية.

       

  • بلبلة الألسنة: "هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ."

    • دينونة المحبة: بلبلة الألسنة كانت دينونة، لكنها أيضاً عمل رحمة لأنها منعت الشر من أن يتفاقم ويسيطر على كل البشرية. بلبلة اللغة أجبرت الناس على التفرق وملء الأرض كما أراد الله في البداءة.

       

  • تسمية بابل: سُميت "بَابِلَ"، لأن الرب هناك "بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ". بابل (Babel) تعني في العبرية "بلبلة" أو "اختلاط". أصبحت بابل رمزاً لـ التمرد البشري المنظَّم في كل العصور.

     

2. سلسلة الأنساب من سام إلى إبراهيم (الآيات 10-32)

بعد الانقسام اللغوي، يعود السرد للتركيز على الخط المختار الذي يحمل وعد الخلاص، وهو نسل سام. يتكون هذا الجزء من سلسلة أنساب متواصلة تبدأ من سام وتنتهي بـ تارح (أبو إبراهيم).

 

  • الغاية اللاهوتية للأنساب:

     

    1. الربط التاريخي: التأكيد على أن إبراهيم ليس شخصية أسطورية، بل حفيد مباشر لآدم ونوح من خلال نسل سام.

       

    2. تسليط الضوء على الضعف البشري: يُلاحظ أن العُمْر بدأ يتناقص بشكل كبير بعد الطوفان.

      • سام عاش 600 سنة.

      • أبناؤه وأحفاده عاشوا في نطاق 400-200 سنة.

      • ناحور وتارح (آباء إبراهيم) عاشوا أقل من 200 سنة.

      • هذا التناقص يثبت أن الطوفان لم يوقف انحدار البشرية نحو الموت، وأن أثر الخطيئة الجدية (الأصلية) ما زال يتفشى في الطبيعة البشرية.

         

أ. ميلاد إبراهيم (الآيات 26-32)

  • تارح وأبناؤه: "وَعَاشَ تَارَحُ سَبْعِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ أَبْرَامَ وَنَاحُورَ وَهَارَانَ."

    • أبرام (إبراهيم لاحقاً) هو الشخصية المحورية التي سيبدأ بها العهد الإلهي.

  • خلفية العائلة: عاشت عائلة تارح في أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ (العراق الحالي)، التي كانت مركزاً لعبادة الأوثان (يش 24: 2)، مما يظهر أن الله اختار إبراهيم من بيئة وثنية.

  • الهجرة الأولى: "وَأَخَذَ تَارَحُ أَبْرَامَ ابْنَهُ، وَلُوطاً بْنَ هَارَانَ ابْنِ ابْنِهِ، وَسَارَ مَعَهُمْ مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتَوْا إِلَى حَارَانَ وَأَقَامُوا هُنَاكَ."

    • حاران: مدينة تقع في شمال ما بين النهرين. توقف تارح في حاران ومات هناك.

    • النية الإلهية: بالرغم من أن تارح هو الذي قاد الهجرة ظاهرياً، إلا أن الهدف الأصلي (الوصول إلى أرض كنعان) كان إرادة إلهية (كما سيكشف الأصحاح 12). هذا يمهد لدعوة إبراهيم، الذي سيستكمل المسيرة إلى أرض الموعد.


 

🌟 

  1. تمرد بابل: يثبت أن الخطيئة البشرية بعد الطوفان لم تتغير، وتتجلى في الكبرياء والرغبة في الاستقلال عن الله (برج بابل).

     

  2. سيطرة الله: بلبلة الألسنة هي عمل دينونة، لكنها في جوهرها كانت تدبيراً إلهياً لضمان انتشار البشرية وعدم تركيز الشر في مكان واحد.

     

  3. العُمْر والزمن: تناقص الأعمار يُظهر أن الله بدأ يقلل من فترة اختبار الإنسان ويُسرِّع من خطة الخلاص.

     

  4. الاستعداد للعهد: ينتهي الأصحاح بظهور إبراهيم في بيئة وثنية، مما يجهز المسرح للأصحاح التالي، حيث سيختار الله شخصاً واحداً ليبدأ به تاريخ الخلاص للعالم كله.


تعليقات

الأكثر مشاهدة

تفسير سفر التكوين الاصحاح الاول

تفسير سفر التكوين بالكامل

تفسير الاصحاح الخامس من سفر التكوين