تفسير الاصحاح الثامن من سفر التكوين


 

  ⛰️ الأصحاح الثامن من سفر التكوين: انحسار المياه والبداية الجديدة

يمثل هذا الأصحاح تحولاً من زمن الدينونة (الطوفان) إلى زمن الرحمة والنجاة. إنه يركز على تذكر الله لنوح وبدء عملية تجديد الحياة على الأرض.

1. تذكُّر الله لنوح والبدء في إنهاء الطوفان (الآيات 1-5)

  • "ثُمَّ تَذَكَّرَ اللهُ نُوحاً وَكُلَّ الْحَيَوَانَاتِ وَكُلَّ الْبَهَائِمِ الَّتِي مَعَهُ فِي الْفُلْكِ.":

    • "تذكَّر الله": لا يعني أن الله نسي، فالله لا ينسى. إنه تعبير لاهوتي يعني أن الله تدخل بفاعلية لإنهاء الدينونة وبدء خطة الخلاص والرحمة. كما تذكر الله نوحاً، هكذا يتذكر الله شعبه في الضيقات ويُعينهم.

       

  • وسائل إنهاء الطوفان:

    1. "أَجَازَ اللَّهُ رِيحاً عَلَى الأَرْضِ فَهَدَأَتِ الْمِيَاهُ.": استخدام الريح (التي تذكرنا بروح الله في تك 1: 2) لتبخير المياه وتغيير الجو، مما يرمز إلى عمل الروح في التجديد.

    2. "انْسَدَّتْ يَنَابِيعُ الْغَمْرِ وَطَاقَاتُ السَّمَاءِ": إيقاف مصادر المياه التي تسببت في الطوفان.

       

  • المدة الزمنية: بدأت المياه في الانحسار بعد مئة وخمسين يوماً من بدء الطوفان.

  • استقرار الفلك: "وَاسْتَقَرَّ الْفُلْكُ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ، فِي الْيَوْمِ السَّابعِ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ." (جبال في تركيا حالياً). هذا الاستقرار يمثل راحة نوح وعائلته ورمزاً لراحة شعب الله في العهد الجديد.

     

2. إرسال الطيور لاختبار الأرض (الآيات 6-12)

بعد مرور أربعين يوماً من استقرار الفلك، بدأ نوح اختبار حالة الأرض لمعرفة متى يمكنه الخروج:

  • إرسال الغراب: "أَرْسَلَ الْغُرَابَ، فَخَرَجَ وَرَجَعَ حَتَّى نَشِفَتِ الْمِيَاهُ عَنِ الأَرْضِ."

    • صفة الغراب: الغراب طائر يأكل الجيف، ويُعتبر غير طاهر. وجوده يدل على أن الأرض لم تُطَهَّر بعد بالكامل، وما زالت غير صالحة للسكن.

  • إرسال الحمامة (ثلاث مرات):

    1. المرة الأولى: رجعت الحمامة إلى نوح، "لأَنَّ الْغَمْرَ كَانَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ" (لا يوجد مكان تستقر فيه).

    2. المرة الثانية: عادت الحمامة "وَفِي فَمِهَا وَرَقَةُ زَيْتُونٍ خَضْرَاءُ".

      • رمزية الغصن: غصن الزيتون هو رمز للسلام والرجاء والمصالحة مع الله وبدء الحياة النباتية من جديد. هذا هو الإعلان الأول عن تجديد الأرض.

    3. المرة الثالثة: "فَلَمْ تَعُدْ إِلَيْهِ أَيْضاً." دلالة على أن الأرض جفت وأصبحت صالحة للحياة.

  • الدلالة الروحية للحمامة: الحمامة ترمز في التقاليد الروحية إلى الروح القدس، الذي يشهد على التجديد والخلاص (كما حدث في معمودية المسيح).

     

3. فتح نوح للفلك والخروج (الآيات 13-19)

  • الكشف عن الأرض الجافة: بعد سنة كاملة (في اليوم الأول من الشهر الأول من العام الجديد) كشف نوح غطاء الفلك ورأى أن وجه الأرض قد جفّ.

  • الانتظار لأمر الله: لم يخرج نوح رغم رؤيته للأرض الجافة، بل انتظر أمراً مباشراً من الله: "وَكَلَّمَ اللَّهُ نُوحاً قَائِلاً: اخْرُجْ مِنَ الْفُلْكِ." (الآيات 15-16).

    • الطاعة الكاملة: يظهر هذا كمال طاعة نوح، فكما دخل بأمر الله، خرج أيضاً بأمر الله. يجب أن تكون حياة المؤمن كلها تحت قيادة الروح والوصية الإلهية.

  • الخروج والبدء من جديد: خرج نوح وكل عائلته وكل الكائنات الحية التي كانت معه. البشرية والحياة بدأت مرة أخرى من هذه النواة الصغيرة البارة.

     

4. عبادة نوح والعهد الإلهي (الآيات 20-22)

  • أول عمل لنوح على الأرض الجديدة: "وَبَنَى نُوحٌ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ. وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ وَمِنْ كُلِّ الطُّيُورِ الطَّاهِرَةِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى الْمَذْبَحِ."

    • المذبح والذبيحة: هذا هو أول ذكر لبناء مذبح بعد الطرد من الجنة. هذا العمل يدل على شكر نوح وعبادته لله الذي أنقذه، وتكريس الأرض المتجددة لله. الذبائح الطاهرة تشير إلى الكفارة والتطهير.

  • الاستجابة الإلهية: "فَتَنَسَّمَ الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَا."

    • رائحة الرضا (الهدوء): تعبير لاهوتي يعني أن الله قَبِلَ ذبيحة نوح وعبادته.

  • الوعد بعدم إهلاك الأرض مجدداً بالماء: "فَقَالَ الرَّبُّ فِي قَلْبِهِ: لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ الأَرْضَ أَيْضاً مِنْ أَجْلِ الإِنْسَانِ، لأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ الإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ."

    • إقرار بواقع الخطيئة: الله يقر بأن طبيعة الإنسان ظلت مائلة للشر (منذ حداثته)، بالرغم من الطوفان. وهذا هو سبب عدم إهلاك الأرض مجدداً، لأن الإهلاك لن يغيِّر طبيعة الإنسان الداخلية.

    • خطة بديلة: بدلاً من الإهلاك المتكرر، سيأتي الخلاص الحقيقي لتغيير قلب الإنسان، وهو ما تم في المسيح.

  • نظام الخليقة المستمر: "مُدَّةَ الأَرْضِ لاَ تَنْقَطِعُ: زَرْعٌ وَحَصَادٌ، وَبَرْدٌ وَحَرٌّ، وَصَيْفٌ وَشِتَاءٌ، وَنَهَارٌ وَلَيْلٌ."

    • هذا هو العهد الطبيعي الذي أقامه الله. إنه وعد إلهي بـ ثبات قوانين الطبيعة واستمرارها طالما بقيت الأرض، مما يضمن استمرار الحياة البشرية.

تعليقات

الأكثر مشاهدة

تفسير سفر التكوين الاصحاح الاول

تفسير الاصحاح الخامس من سفر التكوين

تفسير سفر التكوين بالكامل